توجد قصة مثيرة للاهتمام عن الطريقة التي طور بها بابلو بيكاسو (Pablo Picasso) -الفنان الإسباني الشهير ذو العبقرية الفذة- قدرته على إنتاج أعمال رائعة خلال دقائق فقط؛ فكما تدور أحداث القصة، كان بيكاسو يمشي في السوق ذات يوم عندما رصدته امرأة، فأوقفته وأخرجت قطعة من الورق وقالت: "يا سيد بيكاسو، أنا من المعجبين بأعمالك؛ فهلَّا رسمتَ لي لوحة صغيرة من فضلك؟"؛ ابتسم بيكاسو وسرعان ما رسم قطعة فنية صغيرة وجميلة على الورقة، ثم أعادها إليها قائلاً: "ثمن هذه اللوحة مليون دولار".
قالت المرأة: "ولكن سيد بيكاسو، لقد استغرق الأمر ثلاثين ثانية فقط لرسم هذه التحفة الفنية الصغيرة"، فقال بيكاسو: "سيدتي الفاضلة، لقد استغرق الأمر مني ثلاثين سنة لكي أقدر على رسم هذه التحفة الفنية بثلاثين ثانية".
لم يكن بيكاسو العبقري المبدع الوحيد الذي عمل لعقود من الزمن على إتقان حرفته، كما تعدُّ رحلته نموذجاً للعديد من المبدعين المتألقين، فحتى الأشخاص الذين يتمتعون بمواهب كبيرة نادراً ما ينتجون عملاً مبدعاً قبل عقود من الممارسة؛ ولنتحدث عن سبب ذلك، وكيف يمكنك أن تكتشف عبقريتك في الإبداع.
أعمار أغلب الفائزين بجائزة نوبل:
لقد رصدت دراسة حديثة أعمار الفائزين بجائزة نوبل، والمخترعين العظماء، والعلماء؛ فوجد الباحثون أنَّ أغلب العمل الرائد بلغ ذروته في أواخر الثلاثينات، أي ما يعادل عشر سنوات كاملة على الأقل في أي مهنة؛ وحتى في مجالات العلوم والرياضيات، تتطلب الإنجازات الإبداعية غالباً عشر سنوات أو أكثر من العمل.
تتطابق هذه النتائج مع النتائج التي توصل إليها باحثون سابقون أيضاً، فعلى سبيل المثال: توصلت دراسة أجراها أستاذ علم النفس الإدراكي "جون هايز؟" (John Hayes) في جامعة "كارنيجي ميلون" (Carnegie Mellon) إلى أنَّه قد أُنشِئ ما يقارب خمسمئة قطعة موسيقية شهيرة بعد مرور عشرة أعوام على امتهان المؤلف لهذه المهنة، ووجد "هايز" في دراسات لاحقة أنماطاً مماثلة لدى الشعراء والرسامين، وقد أشار إلى هذه الفترة التي تمتاز بالعمل الجاد والقليل من التقدير "بعشر سنوات من الصمت".
سواء كنت مؤلفاً أم عالماً، فإنَّ الإبداع ليس سمة تُولَد بها أو دونها، بل هو شيء تكتشفه وتشحذه وتعمل على تطويره من خلال العمل الجاد؛ ويقودنا هذا إلى سؤال هام: كيف يمكنك أن تؤدي عملك على أكمل وجه وتكتشف موهبتك الفذّة والمخفية؟
اسمح لنفسك بكتابة مقالات سيئة:
"يميل الناس إلى مراقبة الكتَّاب الناجحين الذين تُنشَر كتبهم ويحصلون ربَّما على مردود مالي جيد أيضاً، فيظن الناس أنَّ هؤلاء الكتَّاب يجلسون على مكاتبهم كل صباح وهم بأفضل حال، معتزين بأنفسهم وموهبتهم، ولديهم قصة مذهلة يروونها؛ فيتأهبون للبدء بكتابة فقرات كاملة العناصر بسرعة تماثل سرعة كاتب المحكمة. لكن في الحقيقة، إنَّ هذا مجرد وهم بالنسبة إلى غير المتمرسين، فأنا أعرف بعض الكتَّاب العظماء ممن لديهم جماهير كبيرة ويملكون أسلوباً جميلاً في الكتابة وقد عادت عليهم كتاباتهم بمبلغ جيد من المال، ولم يجلس أيٌّ منهم للكتابة روتينياً وهو مفعم بالحماسة والثقة بالنفس، كما لم يخرج أيٌ منهم بمسودات رائعة من المرة الأولى. بالنسبة إلي وإلى معظم الكتاب الآخرين الذين أعرفهم، لا علاقة للكتابة بحماسة الكاتب، بل الطريقة الوحيدة في الواقع التي أستطيع أن أحصل فيها على نص جيد هي كتابة مسودات سيئة للغاية" - من كتاب (Bird by Bird) لـِ "آن لاموت" (Anne Lamott).
يجب أن تسمح لنفسك في أي محاولة إبداعية بكتابة مقالات سيئة، فلا مهرب من ذلك؛ كما يجب عليك أحياناً أن تكتب 4 صفحات سيئة لتكتشف فقط أنَّك كتبت جملة واحدة جيدة في الفقرة الثانية من الصفحة الثالثة.
إنَّ كتابة شيء مفيد ومُرضٍ أشبه بدخولك منجماً للذهب؛ حيث يكون عليك أن تنقب داخل أكوام من الأوساخ والصخور والأتربة لتجد قطعة من الذهب وسط كل شيء؛ وستجد تدريجياً بعض العبقرية في كتاباتك إن أفسحت المجال للأفكار النيرة بأن تتدفق.
أنشئ جدولاًَ زمنياً:
يعتمد الهواة في إنتاج أي شيء على الإلهام، بينما ينتج المحترفون أعمالهم وفق جدول زمني، فلن يثمر أي عمل بإبداع عبقري إن لم ترغم نفسك على الإبداع باستمرار؛ حيث تكمن الوسيلة الوحيدة لكي تحتل مكانة مرموقة في هذا المجال في ممارسة مهنتك لفترة طويلة من الزمن، ولن يكتب الشخص الذي يجلس ويضع نظريات حول الصفات التي يمتاز بها أكثر الكتب مبيعاً هذا الكتاب أبداً؛ وفي الوقت نفسه، يتعلَّم الكاتب الذي يستيقظ كل صباح ليجلس على كرسيه ويستهل بالكتابة كيف يقوم بهذا العمل على الوجه الصحيح.
"الإلهام للهواة فقط؛ أمَّا نحن، فإنَّا نستيقظ كل صباح لنبدأ العمل" - تشك كلوس (Chuck Close).
لقد أعطى "إرا غلاس" (Ira Glass) -مقدِّم البرنامج الإذاعي الشهير "الحياة الأميركية" (The American Life) الذي يُبَث كل أسبوع إلى 1.7 مليون مستمع- هذه النصيحة لكل من يبحث عن عمل إبداعي ومميز: "إنَّ أهم ما يمكنك فعله هو إنجاز الكثير من العمل. أدِّ قدراً هائلاً من العمل، وضع لنفسك موعداً نهائياً لتعلم أنَّك ستنهي قصة واحدة كل أسبوع أو كل شهر؛ فمن خلال إنجاز قدر هائل من العمل، سيصل العمل الذي تقوم به إلى الجودة التي تطمح إليها".
لا تتردد إن أردت أن تنجز أفضل عمل إبداعي، ولا تستيقظ في الصباح وتقول "أتمنى لو أشعر بالإلهام لأبدع بشيء ما اليوم"، بل يجب أن يكون الأمر مبنيَّاً على قرار تتخذه؛ فلن تصل إلى مرحلة الإبداع الخلَّاق إلَّا بعد أن تمارس عملك بصورة كافية، فتتخلص بذلك من الأفكار التي تخلو من الإبداع.
أنهِ شيئاً ما:
كان عمل "ستيفن بريسفيلد" الأكثر شهرة هو "أسطورة باجر فانس" (The Legend of Bagger Vance)، الرواية الأكثر مبيعاً، والتي تحولت إلى فيلم سينمائي كبير ببطولة "مات دامون"، و"ويل سميث"، و"تشارليز ثيرون"؛ ولكن إذا سألت "بريسفيلد"، فسيقول أنَّ أهم كتاب له هو ذلك الكتاب الذي لم تسمع به قط، وهو أوَّل كتاب أنهاه.
إليك كيف يصف بريسفيلد كيف أنهى روايته الأولى:
"لم أعثر على أحد يشتري مني الكتاب، ولا حتى الكتاب الذي أصدرته من بعده؛ ومرَّت عشر سنوات قبل أن يطلع أحد على شيء كنت قد كتبته، وعشر سنوات أخرى قبل نشر رواية "أسطورة باجر فانس" (The Legend of Bagger Vance)؛ ولكنَّ تلك اللحظة التي كتبت فيها عبارة "النهاية" لأول مرة كانت مصيرية حقاً، وأتذكر كيف فردت الصفحة الأخيرة وأضفتها إلى حزمة المسودة النهائية.
لم يعلم أحد أنِّي قد أنهيت الرواية، ولم يهتم أحد لذلك، لكن أنا كنت أعلم، وشعرت كأنِّي كنت أقاتل تنيناً طوال حياتي وقد سقط ميتاً أمام قدمي ولفظ أنفاسه الأخيرة".
أنهِ شيئاً، أنهِ أيَّ شيء، وتوقف عن البحث والتخطيط والاستعداد لتنفيذ العمل، وما عليك إلَّا أن تبدأ على الفور؛ لا يهم إن كانت النتيجة جيدة أم سيئة، فليس عليك أن تبهر العالم بمحاولتك الأولى، وكل ما عليك هو أن تثبت لنفسك أنَّك تمتلك ما يلزم لتنتج عملاً مميزاً؛ فلا أحد من الفنانين أو الرياضيين أو رجال الأعمال أو العلماء قد وصل إلى مرحلة التألق بإنهاء نصف عملهم فحسب؛ لذا توقف عن مناقشة ما يتوجب عليك فعله، وابدأ العمل.
تمرَّن على التعاطف مع نفسك:
"عندما أكتب، أشعر كأنِّي شخص مبتور القدمين والذراعين، واضعاً قلماً في فمه" - "كورت فونيجرت" (Kurt Vonnegut).
عندما يمارس أي شخص عمله بانتظام، يمتلك القدرة على تقييم جودة عمله بنفسه؛ فأنا أكتب مقالات جديدة أيام الاثنين والأربعاء من كل أسبوع، وأصبحت أقيّم كل ما أكتبه بعد أن التزمت بجدول النشر هذا، وكنت مقتنعاً أنِّي لم أوفر أي فكرة جيدة خطرت في بالي، وكتبت مقالي الأكثر شعبية بعد مضي 8 أشهر.
إنَّه لمن الطبيعي أن تقيِّم عملك، ومن الطبيعي أيضاً أن تشعر بخيبة أمل لأنَّ عملك ليس رائعاً كما كنت تتمنى، أو أنَّك لا ترى أي تحسن فيه؛ لكن يتلخص الحل هنا في التصدي لليأس الذي يمنعك من الاستمرار فيما تفعل؛ فعليك أن تمارس القدر الكافي من التعاطف مع الذات حتى لا تسمح لنقد الذات أن يسيطر عليك.
شارك أعمالك:
شارك أعمالك مع الناس، حيث سيجعلك ذلك مسؤولاً عن تقديم أفضل ما عندك، كما يعطيك تغذية راجعة تمكِّنك من تحسين جودة عملك؛ وعندما ترى الآخرين يتفاعلون معك، يمنحك ذلك الحافز لتهتم بأعمالك أكثر.
"عندما يتعلق الأمر بالأفكار، يبالغ أغلب الناس في خوفهم من عواقب السرقة الأدبية، ولا يدركون الثمن الذي سيدفعونه إن بقيت أعمالهم في الخفاء" - "مايك تراب" (Mike Trap).
قد يعني مشاركة أعمالك مع الآخرين أحياناً أنَّ عليك أن تتعامل مع النقاد والأشخاص الذين يكنون لك الكره؛ ولكن في كثير من الأحيان، فإنَّ الشيء الوحيد الذي يحدث هو أنَّك تجذب إليك الناس الذين يؤمنون بأفكارك، أو الذين يتحمسون للأشياء نفسها التي تتحمس لها، أو الذين يدعمون العمل الذي تؤمن به؛ ومن لا يريد ذلك؟
يحتاج العالم إلى أشخاص يعملون على ابتكار أعمال إبداعية فيه؛ وما يبدو عملاً بسيطاً بالنسبة إليك، قد يكون رائعاً بالنسبة إلى شخص آخر؛ ولكنَّك لن تعرف ذلك أبداً ما لم تعزم على مشاركته مع الآخرين.
كيف تجد إبداعك العبقري؟
إنَّ العثور على عبقريتك الإبداعية أمر سهل: قم بالعمل، وأنهِ شيئاً ما، واحصل على تغذيات راجعة، وابحث عن طرائق لتطوير نفسك؛ ثم أعد ذلك غداً، وكرر الأمر لعشر سنوات أو عشرين أو ثلاثين؛ إذ إنَّك لن تعثر على الإلهام قبل أن تبذل جهدك في سبيل ذلك.
لا شك أنَّك تهتم بأعمالك، لكن لا تأخذ الأمر بجدية لتتمكن من الضحك على أخطائك وتستمر في إنتاج كل ما تحبه، ولا تدع الأحكام التي تطلقها على نفسك تمنعك من إنتاج مزيد من الأعمال.