جميع النظريات والمفاهيم والأفكار، جميع المعتقدات والنصوص والتعاليم المقدسة، وجميع الممارسات والطقوس، وكل ما اكتشفه الإنسان أو اخترعه أو منَّت عليه به السماء؛ كل ذلك تعرض لسوء الاستخدام كنتيجة طبيعية للتداول وإضفاء الطابع الشخصي والفئوي عليه واستغلاله في الكسب والتوجيه.
ومع اتساع المعرفة العلمية بطبيعة النفس البشرية وتأثير الأفكار على موقف الإنسان من حياته، وتأثير هذا الموقف على التطور الذاتي وجودة الحياة؛ ظهرت تقنيات تطوير الذات والتنمية الذاتية، التي سرعان ما تحولت إلى سوق تجارية تتجاوز عشر مليارات دولار أمريكي في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، إنها سلعة مغرية!، لكنها قد تكون مدمرة بل وقاتلة في بعض الأحيان.
نظرة عامة على التنمية الذاتية وتطوير الذات
لماذا ابتكرنا التنمية الذاتية؟ لماذا لم تكن ندوات التنمية الذاتية وتعليم مهارات الحياة متاحة ومنتشرة في العصور السابقة على الرغم من الجذور العميقة لها في التاريخ الفكري؟، إذا كنت من المهتمين حقاً بتطوير الذات لا بد أن تفكر بهذه الأسئلة لأنها أهم مما تبدو عليه!.
أعتقد أنه ليس من اللائق حتى القول أن فلاناً هو مبتكر التنمية الذاتية وتطوير الذات في العصر الحديث، ذلك أن مبادئ التنمية الذاتية وتطوير الذات تعود لأكثر من ألفي عام، وهي مستمرة ومتطورة لها أثرها في مختلف النصوص الدينية والفلسفية والأدبية والشعرية، لكن العصر الحديث هو من ابتكر رواج التنمية الذاتية وتطوير الذات.
تسارع الحياة واختلاف معايير التكيف الاجتماعي والنجاح، وانقلاب وسائل تبادل المعرفة انقلاباً جذرياً لا عودة عنه، إلى جانب ثورة علم النفس الحديث ومبادئ التحليل النفسي التي كانت صادمة في وقتها، بل والظروف السياسية والاجتماعية الجديدة التي حكمت العالم بعد الحربين العالميتين، وغيرها من العوامل التي لعبت دوراً في تيه الإنسان وضياعه في فوضى العالم الجديد ونظرياته؛ كل هذا هو في رأينا ما أتاح الفرصة أمام تطوير الذات والتنمية الذاتية للتحول من أفكار متفرقة واقتراحات فلسفية خاصة إلى منهج يتم تدريسه وفن يتم التدرب على تقنياته.
اليوم تحتل منتجات التنمية الذاتية مراكز متقدمة في قوائم أكثر الكتب مبيعاً وأكثر البرامج التدريبية طلباً، بسوق يتجاوز عشرة مليارات دولار في أمريكا وحدها، وشريحة مستهدفة من النساء المتعلمات اللواتي ينتمين إلى الطبقة الوسطى بشكل أساسي إضافة إلى الشركات التي ترغب بتمكين الموظفين، سوق ينمو بمعدل 5.5%سنوياً[1]، وفي ظل هذا الانتشار ظهرت العوامل السلبية والجانب المظلم لتطوير الذات، وهذا هو موضوعنا.
لنتعرف معاً إلى أبرز وأخطر عيوب تطوير الذات، إنه الجانب المظلم للتنمية!.
مرآة النقص في دورات وبرامج تطوير الذات
بمجرد أن تتخذ قرارك بقراءة كتب التنمية الذاتية أو الخضوع لدورات التدريب على تطوير الذات ستصطدم فوراً بأول عيوب هذا الفن –إن صحت تسميته فناً- وهي مرآة النقص أو مجهر الجوانب السلبية.
جميع برامج تطوير الذات تبدأ من تقييم الجوانب السلبية والبحث عن العيوب والنواقص، ذلك بهدف التعامل معها لاحقاً، لكن القليل جداً من المدربين يهتمون بــ متى يجب أن تتوقف عن هذا البحث، متى يجب أن تكسر مرآة النقص هذه وتتابع حياتك كما يجب، دون أن تبحث عن نقص جديد، دون أن تدمن تعديل السلوك وتطوير الذات، دون أن تصبح ناقداً قاسياً لذاتك لأنك تريدها أن تكون أفضل.
هذا يبدو واضحاً في الأسئلة الترويجية على غرار: هل أنت غير واثق من نفسك؟ هل تعتقد أنك غير قابل للإصلاح؟ هل أنت فاقد للأمل؟ هل تعاني من مشاكل كبيرة في علاقاتك مع الآخرين؟ هل احترامك لذاتك أقل مما يجب؟...إلخ، وقد تحدثنا عن هذه النقطة بالتفصيل في مقالنا عن أسباب انخفاض احترام الذات.
بطبيعة الحال فإن المدربين يعملون على استنهاض الرغبة الكامنة في عدم الكفاية وعدم الرضا، فالأشخاص السعداء ليسوا زبائن جيدين لصناعة التنمية الذاتية![2]، تماماً كما أن الأصحاء ليسوا زبائن جيدين للأطباء المتخصصين بجراحة القلب!.
لتتجاوز هذه العقبة وتحافظ على الفائدة في التنمية الذاتية لا بد أن تكون حكيماً باستخدام مرآة النقص، يجب أن تعلم أن الكمال خرافة، وأن الوصول إلى الراحة والسعادة الدائمة والمطلقة أمرٌ محال، وليست كل العيوب قابلة للتعديل، هناك ما يجب أن تتأقلم معه وما يجب أن تخفف من آثاره وما يجب أن تتناساه، لذلك يجب أن تحدد أهدافك الشخصية من تطوير الذات بشكل دقيق وموضوعي.
مدرب الحياة والمعالج النفسي
إذا قارنت بين مدربي تطوير الذات والمعالجين النفسيين أقل ما يمكن أن تجده أن المعالج النفسي المختص رجل قاسي القلب، لكن دائماً عليك أن تعرف متى تلجأ إلى قساة القلوب... عندما يكون العلاج في جعبتهم!.
في رأيي أن واحدة من أخطر عيوب التدريب على تطوير الذات والمهارات الحياتية الخلط الذي يقع به المدرب والمتدرب على قدم المساواة، خطأ الاختصاص والتشخيص، خطأ التقدير ولعب الأدوار غير المناسبة، وعندما يأخذ مدرب التنمية الذاتية على عاتقه دور المعالج أو الطبيب النفسي المختص فإنه هو من يحتاج إلى العلاج والتدريب على المهنية، وكثير من المدربين المعاصرين يخجلون من إحالة طالب الاستشارة إلى الطبيب النفسي، هذه خسارة مالية وخسارة بالسمعة أيضاً.
دور مدربي التنمية الذاتية هو منح الأفراد بعض الآليات والتقنيات التي تساعدهم على تنظيم أمورهم وترتيب حياتهم بشكل أفضل، والأصح أن نقول تنبيه الأفراد إلى بعض نقاط النظام في حياتهم، إرشادهم إلى المهارات التي يحتاجونها، مساعدتهم على التفكير بطريقة جديدة أو تطوير ما لديهم، لكن ليس من وظيفتهم معالجة الاضطرابات المميزة، بل أن بعض الممارسات التي تنتمي لتطوير الذات قد تكون كارثية في الحالات المرضية.
فقاعة الأمل ودوامة التفاؤل
"فكر وتخيل وستحصل على ما تريد، الكون كله يعمل لأجلك لأنك أنت من تطلب... فتطاع!"، هذه القاعدة وما يشبهها والتي ترسّخت في تطوير الذات من خلال كتاب السر وقانون الجذب وأخوته هي بلا شك الطريقة المثالية لتبقى حيث أنت! وربما لتنحدر بشكل محبط.
التفكير المتفائل والإيجابي أمر جيد بكل تأكيد، لكن فوضى منهج تطوير الذات الحديث جعلت من التفاؤل نوعاً من السذاجة، ومن التفكير الإيجابي فقاعة يعزل فيها الأفراد أنفسهم عن الواقع، والأخطر من هذا كله أنها جعلت البعض يتحمل المسؤولية عن الأحداث التي لا يمكن أن يكون مسؤولاً عنها.
يقول مدرب التنمية الذاتية Steven Handel في مقال له حول أخطار التنمية الذاتية[3] " أصبحت أكثر سعادة وأفضل حالاً بعد أن قللت من تفاؤلي وصرت أكثر عملية... الأشياء السيئة يمكن أن تحدث أحياناً لأشخاص صالحين دون سبب وجيه، هذا لأن عقولنا -مهما كانت أفكارنا إيجابية ونوايانا نبيلة- ليست هي الشيء الوحيد الموجود في هذا العالم".
إذاً بدلاً من التفكير أن التمنية والتخيل والجذب والتفاؤل سيحقق أحلامك، وبدلاً من انتظار الكون لتنفيذ أوامرك -وهي فكرة سخيفة من وجهة نظري- ابدأ بالعمل، تفاءل بقدرتك وليس بالدعم المنتظر من حيث لا تحتسب، واجعل من تفاؤلك عملياً مبنياً على ما تعرفه حقاً، وتذكر أن إنساناً لا يمكن أن يتحكم بكل شيء يدور حوله، فتحمُّل المسؤولية عن حياتك وكل ما يحدث فيها لا يعني أنَّك مسؤول عن الفيضانات أو الكوارث الطبيعية التي قد تدمر ممتلكاتك مثلاً، بل أنت مسؤول عن طريقة تعاملك مع الفشل أو الانكسار أو الكوارث، أنصحك بشدة بقراءة الفقرة القادمة التي ستجعلك تعيد النظر في السر والجذب!.
التنمية الذاتية القاتلة "جريمة تطوير الذات"
ليس تعبيراً مجازياً!، حيث كانت إحدى ممارسات التنمية الذاتية مسؤولة عن مأساة حقيقية أودت بحياة ثلاثة أشخاص عام 2009 أثناء قيامهم بتمارين مجنونة ضمن دورة تدريبية لتنمية الذات.
إذا كنت تعرف الشخص الذي في الصورة فقد تابعت بلا شك فيلم السر، إنه جيمس آرثر راي أحد المؤلفين المشاركين وأبطال الفيلم، وأحد أبرز مدربي التنمية الذاتية والتحفيز في أميركا، جمع راي ثروة مخيفة من خلال الدورات التدريبة التي أقامها، وكان يقول أن قانون الجذب ساعده على جمع الثروة وتحقيق النجاح، لكن قانون الجذب تخلى عنه في إحدى دوراته التدريبية التي بلغت قيمة المشاركة فيها للفرد الواحد 9600$ تحت اسم المحارب الروحي "Spiritual Warrior".
حيث أخضع راي المتدربين للصوم لمدة طويلة قبل الدخول إلى غرفة التعرق التقليدية التي تشبه الساونا، وهناك قضى اثنان من المتدربين نحبهم، فيما تم إسعاف 18 آخرين إلى المستشفى بحالات جفاف وحروق ومشاكل في التنفس، ثم توفيت المشاركة الثالثة بعد أسبوع[4].
حكم على راي بست سنوات سجن بعد إدانته بالقتل نتيجة الإهمال، قضى منها سنتين، ثم خرج ليعيد تسويق نفسه ثانية وليستعيد نشاطه كمدرب تنمية ذاتية وتطوير مهارات الحياة، أسأل نفسي الآن هل كان راي يجذب هذه المأساة!، وهل جذب الضحايا المساكين الموت اختناقاً!.
عيوب V.S فوائد تطوير الذات
ننوه أولاً أن الحديث عن سلبيات وعيوب تطوير الذات والتنمية الذاتية والتدريب على مهارات الحياة لا يعني بأي شكل من الأشكال نسيان المساعدة التي تقدمها هذه التقنيات للكثيرين في سبيل إيجاد أنفسهم وفهم ذواتهم أكثر والتعامل مع الحياة بطريقة أفضل، لكن إدراك العيوب والسلبيات جزء أساسي من تحقيق فوائد تطوير الذات.
في رأينا أن منهج تطوير الذات في بداياته كان أفضل بكثير مما هو عليه الآن، ذلك أن عملية التنمية الذاتية التي كانت تستهدف منح الفرد ضوءً يستكشف من خلاله قدراته ويتعرف إلى نفسه ليكون أكثر قدرة على التكيف والتفاعل مع نفسه ومحيطه؛ تحوّلت إلى سوق تجارية يقصدها عشرات المتطفلين والمتعيشين الذين يعتقدون أنهم يمتلكون القدرة على توجيه الآخرين من خلال قراءة بضعة كتب أو الخضوع لبضع دورات، وإذا تتبعنا حياة مدربي التنمية البشرية سنجد كثيرين منهم يحتاجون للإرشاد أكثر من زبائنهم!.
من جهة ثانية نعتقد أن عيوب منهج التنمية الذاتية بدأت في الظهور فعلياً عندما أصبح هناك من يدافع عن فكر التنمية وتطوير الذات كما يدافع عن معتقد ديني أو سياسي، ويحاول أن يضع قواعد جامعة وملزمة لأكثر الممارسات الإنسانية مرونة وديناميكية، وفي سبيل ذلك لجأ عرابو التنمية الذاتية في القرن الواحد والعشرين إلى محاولة إيجاد روابط بين التنمية الذاتية والعلوم التطبيقية والنظرية مثل فيزياء الكم والميتافيزيقيا وعلوم الأحياء وغيرها، هذه المحاولة اليائسة لجعل التنمية الذاتية علماً كانت بداية الطريق في ظهور عيوب التنمية البشرية وأخطارها.
ونعتقد أن التنمية الذاتية مهما انتشرت ستبقى إلى الأبد تجربة فردية يمكن الاستفادة منها ولا يمكن تحويلها لقاعدة ثابتة أو ملزمة، ببساطة لأن التوأم اللذان ينشآن في بيت واحد وفي ظروف متشابهة يتخذان خيارات مختلفة في حياتهما، ولأن استفادة الفرد من فكرة ما لا يمكن أن تتطابق مع استفادة فرد آخر من ذات الفكرة وإن تشابهت، فالمصادر التي يستخدمها البعض لنشر السلام والمحبة، قد تكون هي ذاتها المصادر التي يتبعها آخرون لقتل الناس في الشوارع!، بل أن الأدوية يختلف مفعولها من جسم لآخر.