“جميعنا مشغولون للغاية، في الغالب نحن ننشغل مع أكثر الأشياء تفاهة”. (محمد مراد ايلدان؛ كاتب مسرحي). في دراسة أعدتها جيه كريستين كيم، الباحثة في مجال التسويق –بجامعة هونغ كونغ للعلوم والتكنولوجيا– توصلت إلى أن شعور المرء بالانشغال أو قوله إنه مشغول، يعد محاولة منه لبث الطمأنينة في نفسه، وأن ذلك يجعلهم يشعرون بأن حياتهم مهمة، وأن وجودهم يصنع فارقًا بالنسبة لمن حولهم. وعلى الجانب الآخر، فنحن نستخدم تلك العبارة كعذر دائم، عن كل تقصيرٍ في حق أقاربنا وأصدقائنا، بل وفي حق أنفسنا.
وتقمص دور الضحية يسوّغ التبرير المستمر، والخطورة من تكرار ذلك بشكل لا واعٍ، أنه قد يؤدي للغفلة عن مراجعة النفس، والتحقق من الأولويات، وحسن إدارة الوقت، ومحاولة إدراك التوازن، والوقاية المبكرة من الملل أو الاحتراق الوظيفي. ويؤكد ذلك توني كرابي الخبير في علم النفس في مجال الأعمال، والذي ألف كتابًا بعنوان “مشغول” بقوله: “إن جزءًا من هذا الأمر يتمثل في أننا نرغب في الشعور بأننا ضحايا، وقادرون في الوقت نفسه على التصرف برزانة”. والنتيجة المتوقعة إذًا: إدمان خداع ذواتنا وغيرنا في نفس الوقت. وهذا يعني أننا نحتاج أن نُسمع آذاننا ما تكرره ألسنتنا.
هناك فرق بين الانشغال والإنتاجية
عندما تضع أهدافا، وقائمة بالمهام اليومية، فمعيار نجاحك يتمثل في إنجاز المهام، والالتزام بالمواعيد المتفق عليها سلفا، ولن يفيدك أبدا أن تقضي وقتا طويلا في عدة مهام، دون أن تنجز شيئًا. الفرق بين المنتج والمشغول هو أن المشغول لا يمل من تكرار “أنا مشغول”، أما المنتج يترك نتائج عمله تتحدث نيابةً عنه. كما أن المنتج يستثمر الوقت ويجعل لكل مهمة ما تحتاجه من وقت، أما المنشغل فيرى دوما أنه لا وقت لديه.
كما أن الشخص المنتج، يركز في عمل واحد، ويعطيه وقته ولا يقفز من مهمة لأخرى، وأحيانًا يقع الشباب في فخ المشغولية، لأنهم يتسرعون في قول “نعم”، ويريدون أن يقتنصوا كل الفرص المطروحة عليهم، إما خوفًا من ضياع بعضها، أو رغبةً في إرضاء مدرائهم أو زبائنهم، وربما لأنهم لم يتدربوا على قول “لا” بذكاء. وبغض النظر عن الأسباب، فالمحصلة كارثية، أما المنتج يفكر جيدًا ويعرف متى يعتذر بلطف.
ولعل من أخطر أسباب طغيان “المشغولية الزائفة” هو الغرق في المهام العديدة، وغياب الأولويات، فعندما تسأل المنتج عن أولوياته في يوم ما، عادة ما سيذكر ثلاث أو أربع أولويات، أما المشغول قد يذكر عشرين مهمة، وتلك فوضى وليست أولويات. وقد يكون الأمر أعمق من ذلك، ربما في غياب الأهداف الحياتية والصورة الكلية لما نرغب في تحقيقه تشحن طاقتنا وتكون بمثابة البوصلة التي تضبط اتجاهنا، وفي كتاب “اصنع أفضل حياة لك” العديد من الإرشادات ونماذج العمل، لمن أراد وضع قوائم لحياته، بل والتدريب على ذلك.
ومن بين تلك الفوائد وجدت إضاءة تتعلق بموضوعنا بصورة مباشرة، عن “العدوى في العمل”: استنادًا لنظريات العدوى العاطفية والاجتماعية، يشير الكتاب لبحث مثير للاهتمام لسيجال بارساد من جامعة بنسلفانيا، وفيه أن الحالات المزاجية –سواء السلبية أو الإيجابية– لزملاء العمل تؤثر عليهم دون أن يدركوا ذلك، وفي الدراسة: جلس ممثل بين الموظفين “المعنيين بالدراسة” وهو ينقر بالقلم على المكتب في نفاد صبر أو يميل نحو الأمام في دعم، فإذا بالموظفين يلتقطون حالته المزاجية، ويتخذون قرارات مالية وفقا لها.
كما أن دراسات شركات التأمين ذكرت أن الموظفين الذين يعربون عن استنفاد القوة والإحباط يمررون تلك الحالات إلى زملائهم خاصة عند مناقشة الضغوط المتعلقة بالعمل. بل أشار الكتاب كذلك إلى دراسات تؤكد أثر المدير المتفائل، حيث يجعل من يعملون معه أكثر إنتاجية وسعادة، والعكس تمامًا إذا كان متشائمًا. وهذا كله يؤكد خطورة الشكوى من الانشغال الدائم، والتي قد تتحول لعدوى –أسرع من الإنفلونزا– قد تدمر فرق عمل وأقسام في شركات، بل ربما كيانات كاملة خاصة مع وسائل التواصل الاجتماعي.
وهم ارتباط الانشغال بالأهمية
مع بدايات القرن العشرين، شهد الإنسان عصر تفوق الآلة، وأصبح معيار التميز هو من يجني أموالًا أكثر، وطغى عالم المال والأعمال، وصراع البورصة والأسهم وأسواق الذهب والنفط، وفي ظل ذلك الجنون الرأسمالي، تسارع رجال الأعمال، في وصل الليل بالنهار، ينفخون في السجائر بشراهة، وانتشرت عدوى فكرة “النجاح المجنون”، على أساس من يداوم أكثر يربح أكثر.
مثلًا: إذا كنت تداوم 8 ساعات في مقابل 500 دولار، فدوامك 10 ساعات يعطيك 600 دولار، وإذا زدت أكثر تجني أكثر، وقد يفكر المرء في النوم على أنه لا فائدة منه، وقد يظن أن القليل منه يكفي. أما إذا عمل في أيام العطلات سيجني أكثر وأكثر، لكنه سيكتشف بعد فترة وجيزة، أنه سقط في حفرة الإرهاق المزمن. ومع ذلك، عندما يسأله صديقه في العمل أو زوجته، هل عزيت عمتك في وفاة زوجها؟ أو هل زرت أمك المريضة في المستشفى؟ سيجيب بلا اهتمام قائلًا: أنتم تعلمون كم أنا مشغول.
ينتقد ديباك شوبرا في كتابه (القوانين الروحانية السبعة للنجاح)، هذا الفهم للنجاح، ويرى أنه نوع من ممارسة القلق بامتياز، ويعتقد أن النجاح الذي يؤدي للعيش بعقلية العمل المرهق، يعد مرضًا في حد ذاته. أما إيريك فروم في كتابه (الإنسان من أجل ذاته)، يسمي ادعاء المشغولية، مع الاعتقاد في أن ذلك يدل على الجدية والأهمية، بالنشاط المغترب، مشيرًا لغياب المعنى والغاية، حيث يتحول أداء المهام الوظيفية، وسيلة وغاية في آن واحد.
في مقال منشور على موقع BBC بتاريخ 22 فبراير، تناقش لينوكس موريسون الموضوع ذاته، لكنها أشارت إلى خطر تكرار “أنا مشغول” على حياة الفرد المهنية. فتقول: “ربما تشعر عندما تقول إنك مشغول بأن هذا يُعد وسام شرف على صدرك. لكن رئيسك وزملاءك يفسرون ذلك على نحو مغاير تمامًا. والأسوأ –بحسب الخبراء– أن الانطباع الذي سيأخذونه عنك في واقع الأمر قد يقوض حياتك المهنية، وعلاقاتك مع من حولك”.
يقول إد بالدوين، وهو استشاري وخبير إستراتيجي في مجال الموارد البشرية: “الانطباع الذي يتركه انشغالك الشديد أو ظهورك على هذه الشاكلة، سيُنظَر إليك في الغالب على أنك وقحٌ وغير كفء”. وهذا الرأي من خبير يعكس فهمًا مغايرًا لما يعتقده الكثيرون، ففي الوقت الذي يعتقد فيه الموظف أنه يقتفى أثر الناجحين، وأبطال قصص رواد الأعمال، لكن مديره سيفهم من ذلك سوء إدارته لوقته وأولوياته. ومن يطالع كتب التطوير الشخصي، خلال العقدين الأخيرين، سيجد توجها نحو محاولة استرداد الإنسان، ومناقشة الأهداف الجوهرية، والرؤية الكلية الشاملة المتزنة، وإعادة تعريف وقت الفراغ.
ماذا نقول إذا كنا منشغلين حقًّا
لا شك أننا نمر بأوقات عصيبة أحيانًا، وتتراكم علينا المهام في بعض الأوقات، وربما نشعر باقتراب موعد تسليم تقرير ما، دون الانتهاء منه. لا بأس، فهذا على سبيل الاستثناء يحدث معنا جميعًا، لكن الخطر في أن يتحول لأسلوب حياة، وروتين دائم، وهنا سأذكر نصيحتين لمن يشعرون بضغط العمل والحياة بوجه عام.
الأولى: من ديبي هايس، في إلقاء لها على منصة تيد، وقد أشارت لأمر نعرفه جيدًا، وهو الاستخدام المستمر للهواتف والإنترنت، والارتباط الدائم بشبكات التواصل الاجتماعي. ودفن رؤوسنا في الشاشات لساعات طويلة، وهذا يوهم بانشغال غير حقيقي، وثمنه باهظ جدًّا، وقالت في الختام : “النجاح ليس أن تنشغل طوال الوقت، النجاح هو التركيز على ما يُهم”. ويمكننا بتحويل كلامها لحل عملي، عن طريق ترشيد استهلاكنا للهواتف والإنترنت، وإبعادها عنا لعدة ساعات في اليوم عن قصد، وسترى بنفسك كيف ستشعر بفائض من الوقت، وكيف ستجد حولك من أمور كنت غافلا عن التواصل معها.
الثانية: من لورا سيمز، وهي خبيرة في شؤون السلامة والمخاطر، تقول سيمز إنها تنزعج بحق عندما تسمع كلمة “مشغول”، وترى أنها تعني أنك ترفض الشخص الآخر أمامك (الذي يطلب منك إنجاز عمل ما).
ولذا تشير إلى أن يقول المرء لمن يخاطبه بشأن أداء مهمة ما وهو غارق بالفعل في أخرى غيرها: مثلا: “أنا منهمك في التعامل مع طلب مهم للغاية، وله قيمة كبيرة في الوقت الراهن، وسيسعدني أن أتفرغ لطلبك في الرابعة مساء”.
سلبيات الانشغال المزيف
يؤثر ادعاء الانشغال بمرور الوقت، بصورة قد تبدو مزعجة مع الكثيرين إن لم يتم الانتباه إلى أخطارها، وتتعدد آثار هذه “المتلازمة” على نواحٍ مختلفة من حياة الإنسان ومنها:
أولًا: الجانب الوظيفي
- الاحتراق الوظيفي JOB BURN: تتضاعف الأبحاث والدراسات كل عام في هذه الحالة التي تؤثر على الموظف والمؤسسة العامل فيها والمجتمع، وعلى أسرته قطعًا. وفي الوظائف الحساسة التي لا تحتمل كثرة الغيابات، كالتمريض مثلًا، وكمربيات الأطفال قبل سن المدرسة، وكذلك في المناصب القيادية، حيث يتحول الشخص إلى موظف ممتد، فيذهب البيت وهو لا يزال في مشاكل العمل، وينام وهو يحلم بها. وفي اليابان يسمى (كاروشي)، أي الموت بسبب ضغط العمل. وفي ظل جائحة كورونا، زاد الانتباه لخطر تلك الظاهرة على الفريق الطبي، الذي عاش أوقاتًا عصيبة في جميع أنحاء العالم.
- الملل أو الاكتئاب الوظيفي: وهو أقل درجة من الاحتراق، لكن خطره يكمن في عدم ظهوره إلا بعد أن يكبر، يشعر الموظف تدريجيًّا بفقدان الرغبة في أداء مهام وظيفته، وفقدان دافع الاستمرار.
- العطالة: انخفاض المجهود لأدنى درجة، وطلب الفراغ أو الراحة في غير أوقاتها، وذلك يحدث في أثناء الدوام نفسه.
ثانيًا: الجانب الشخصي
- ضعف الوعي الذاتي: غياب الانتباه والحضور، والتظاهر بالانشغال الدائم، يجعل المرء يهمل نفسه، ويبدأ الإهمال بأدق الأشياء، كالاهتمام بالهندام والتأنق واختيار الثياب وتصفيف الشعر ونظافته الشخصية، أو إهمال سيارته وترك صيانتها ونظافتها بل والتهاون بإصلاح أعطالها الغير طارئة، ثم ينتقل ذلك الإهمال كالسرطان، تحت ضغط “حمى الانشغال”، لجوانب متعددة بسبب الغفلة.
- التوتر الزائد والقلق: يؤدي حتما هذا الشعور المُتوهّم، إلى مشكلات نفسية، وحالة من عدم الرضا والغضب، وعدم التوقف للمراجعة، يؤدي لما هو أسوء من آثار نفسية، قد تتطلب مراجعة طبيب مختص.
- التدهور الصحي: قد يؤجل “المشغول” دائمًا، الاهتمام بصحته، وعادة ما يكون أسيرا لعادات سيئة كالتدخين والإكثار المفرط من المنبهات، وكذلك المسكنات لتسكين الآلام العارضة، والتي تنبهه لخطر أو ضرر في مكان ما في جسده، وغالبا ما يتعلل صاحبنا، بأنه لا يملك الوقت للعناية بصحته، وإذا وصل لهذه المرحلة، فهو غالبا لن يهتم بالغذاء الصحي أو ممارسة الرياضة. ويؤدي ذلك لعواقب صحية وخيمة – خاصة مع التقدم في السن – أشهرها ارتفاع ضغط الدم، والسكري أو مقاومة الإنسولين، السمنة أو الوزن الزائد.
- التسويف والمماطلة: يصاحب التسويف “المشغول”، طوال رحلته في الحياة، حتى يصبح صديقه الصدوق، حيث يجد فيه سبيلا وفرصة للهروب المؤقت، لكنه يؤدي للتراكم والضغط والخسائر. وفي كتابهما (مزيد من الوقت من أجلك) تذكر كلا من روزماري تاتور وآليشا لاتسون تحت عنوان: ثلاث خطط للمواجهة لا تجدي نفعا، وذكرا (المماطلة – خرافة تعدد المهام – الزعم أنك مشغول للغاية)، ويشرح الكتاب أسباب فشل تلك الاستراتيجيات في إدارة الوقت، وفي نهاية الفصل إشارة مفيدة إلى ظاهرة تسمى “العمى غير المحسوس” وهي عدم القدرة على رؤية ما يؤثر سلبا على فاعليتنا، مع وجوده أمامنا مباشرة، وذلك لانخفاض الوعي والانتباه.
ثالثًا: الجانب الاجتماعي والعاطفي
يؤدي هذا الإحساس الدائم بالانشغال، إلى الغفلة أو تجاهل الواجبات الاجتماعية وصلة الأرحام، ومشاركة الأصدقاء والمقربين أفراحهم وأتراحهم، وتسيطر حالة من الجفاف العاطفي، وقد تصيب الحياة الزوجية والأسرة الصغيرة، بضرر بالغ بسبب الإهمال من ناحية، والانفعال والمشاحنة والغضب من ناحية أخرى. في مقال لداريوس فوروكس صاحب كتاب “الطريق لعادات أفضل” (The Road To Better Habits) على منصة ميديوم بعنوان “أن تكون مُنشغلًا لا يعني أنك ناجح”، ويقول إنه في فترة من فترات حياته كانت حجته الدائمة لأي تقصير من طرفه بأنه “منشغل لا وقت لديه”، كما يُعرب عن أسفه في كل مرة يُصادف أشخاصا يستخدمون الحجة نفسها. ينسون ذكرى زواجهم ويكون على لسانهم “تعرف كم أنا منشغل”، يغتربون أو يسكنون بعيدا عن عائلتهم وتمضي أشهرٌ دون مكالمة هاتفية، وحجتهم: “أمي، تعرفين كم أنا مُنشغل”، يُعانون من وزن زائد أو صحتهم البدنية بشكل عام تحتاج إلى ارتياد النوادي الرياضية والمواظبة على التمارين ولكنهم منشغلون لا وقت لديهم، والأسوأ: “أنا مُنشغل جدًّا، لدرجة أن انشغالي لا يمنحني فراغًا للاستمتاع بالأمور التي أحب”. ويُعلق: “لقد استخدمت كل هذه الأعذار، ولكني في مرحلة ما فكرت وقُلت لنفسي: كيف يُمكنني أن أنشغل لدرجة تمنعني من إجراء مكالمة هاتفية لشخص مهم في حياتي، هذا هُراء”.
رابعًا: الجانب الروحي
يعتقد البعض أن انهماكه في المهام الوظيفية ونحو ذلك، مبررا لترك الصلاة في وقتها، أو المداومة على الأوراد والأذكار اليسيرة، مع أن الأبحاث تؤكد أهمية الراحات البينية، أثناء فترات الدوام، وتناولت بعض الدراسات فوائد ممارسة “التأمل”، في أوقات متفرقة من اليوم. والصلاة بخشوع وحضور، تجلب السكينة وتساعد على الهدوء والتركيز، خاصة مع استشعار التوكل والاستعانة بالله، كما أن للوضوء أثرًا عجيبًا في النفس، ويجلب النشاط والطمأنينة في آن واحد.
ليس كل انشغال عمل
لقد تعمدت تجنب مفردة “عمل” فيما سبق من المقال، رغبة في رسم صورة ذهنية إيجابية ومبهجة للعمل، والذي يعبر عن ذواتنا، ويشعرنا بقيمتنا وأثرنا في الحياة، وقد صدق دي مونتين حين قال: “ولدنا لنفعل”، وحينما نعمل ما نحب وبحب، يصبح العمل فعلا وجدانيا، يجلب السعادة والرضا، ويشعر الإنسان بالراحة والامتنان، بعدما يؤدي عمله كما ينبغي.
يتحدث الفلاسفة والمفكرون والمدربون وعلماء الإدارة، عن العمل في القرن الواحد والعشرين، بصورة أكثر انفتاحا وإلهاما، حيث يتحول من العمل بجهد إلى العمل بذكاء، ويرتقي الحديث من الكفاءة والفاعلية إلى الجودة وتقليل الهدر، واستخدام تقنيات مثل Six Sigma والكايزن. ومن ناحية أخرى ركز بعضهم على الانخراط الكامل والعمل العميق، والانسجام والتركيز الذي يؤدي بدوره لإنتاج إبداعي مختلف. فلم يعد عدد الساعات والكم هو الغاية من العمل فحسب، وإنما الكيف والجودة والإبداع. لذلك لا نستغرب عندما نجد كتبا وأبحاثا تناقش أهمية المرح، في بعض بيئات العمل.
في محاولة لإعادة تعريف العمل، بالمعنى الإنساني، لخصه هنري أرفون في كتابه (فلسفة العمل)، في ثلاثة أركان:
- جهد إرادي واعٍ تأملي.
- بناء مسبق بفكر، فالإنسان يفكر في أثر العمل قبل أن يحققه.
- جهد مبدع.
وفي ظل هذه الرؤية، نعيد النظر فيما نفعله كل يوم، وعندما يتحول العمل لمنحى روحي وجداني، مصحوب بنية ورؤية، ستختفي المشغولية المصطنعة، ويحل محلها الإنتاجية والفاعلية بحب. يقول مكسيم غوركي: “عندما يكون العمل متعة تكون الحياة مبهجة، أما إذا كان واجبا تكون عبودية”.
أنا أعمل أنا موجود
في كتابه (سكينة الروح)، يرى بيرم كرسو أن الحب الذي يتوجه نحو العمل، يعود إليك بشكل حب للذات. وهذا يلمسه أي إنسان أنجز عمله وهو راض عنه، يجد نوعًا من تقدير الذات، يتشكل في داخله، وكأنه مكافأة تشجع على تكرار ذلك العمل لما يولده من شعور جميل. ويقول كرسو: “إذا أحببت عملك فإنه يتحول إلى إيمان مباشرةً”. وفي القرآن الكريم نجد اقتران الإيمان والعمل الصالح، وفي ذلك وجدت بحثا دقيقا بعنوان: اقتران الإيمان بالعمل الصالح في القرآن الكريم ودلالاته الحضارية، مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية، (المجلد27-العدد الثالث-2011) للدكتور عبد الرحمن حللي.
وذكر فيه صفات الإنسان في القرآن مجردا من الإيمان والعمل الصالح، أذكرها إجمالا للفائدة: (الضعف- العجلة – الهلع – اليأس- البخل-الاغترار-الظلم-الجهل-الخصومة-الجدل-الطغيان-الكنود-الكفران-الخسر). ولعل هذا الاستقراء من الباحث، جمع لنا بعض ما يتلبس به المشغول. وبمفهوم المخالفة، فالعمل الصحيح والصالح لا يليق به تلك الصفات.
ويقول: فريدريك لونوار في (فنَّ الحياة): “حقِّق وجودك من خلال ما تعمل، يصبح عملك صورة من صور ذاتك”، وقريب من ذلك يقول الرافعي: أعمالنا في الحياة هي وحدها الحياة.
الثلث والثلث كثير
في صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره – وكان سعد مريضا- ألا يزيد عن التصدق بالثلث: «الثلث والثلث كثير إن صدقتك من مالك صدقة وإن نفقتك على عيالك صدقة وإن ما تأكل امرأتك من مالك صدقة وإنك أن تدع أهلك بخير خير من أن تدعهم يتكففون الناس». لا شك أن في هذا الحديث، إشارة إلى أن العمل بقصد الكسب – مع النية الصالحة – عبادة، وكأن المسلم إما في محراب الصلاة أو في محراب الحياة، وهذا يعطي للعمل منحى روحيا ساميا.
فكرة “التقسيم الثلاثي” في الهدي النبوي مشهورة، وفي الحديث – في مسند أحمد وغيره- «ما ملأ آدمي وعاء شرًّا من بطنه، بحسب ابن آدم أكلات يُقمن صُلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه». وهي دعوة للاعتدال والتوازن، ونجدها في فلسفات وثقافات أخرى مما دل على أنها توافق الفطرة السليمة، وذهب الكثير من الخبراء في إدارة الموارد البشرية، إلى أن أفضل تقسيم للوقت يكون بين العمل والراحة ووقت الفراغ.
اغتنم فراغك قبل شغلك
في ورقة بحثية منشورة عام2016 في Gerontology Journal ( علم معنيّ بدراسة العوامل النفسية والثقافية والمعرفية وغيرها على كِبَر السن، والتقدم في العمر)، درست الأثر الإيجابي الملحوظ والعلاقة القوية بين أنشطة أوقات الفراغ وبين الحالة الصحية الجيدة والحياة الطيبة. وينظر لوقت الفراغ في دراسات علم النفس الحديثة، على أنه وقت النمو الحر للإرادة، ويُعرف الإنسان في هذا الوقت الحر، وفي أي شيء يقضيه.
وللعقاد مقالة بعنوان “تعلمت من أوقات الفراغ” في كتابه (أنا)، ويقول فيها عن وقت الفراغ، أنه الوقت الذي نملكه ونملك أنفسنا فيه… وذكر أن تاريخ الإنسانية مدين لأوقات الفراغ. ومقصد العقاد بذلك، أن أكثر المكتشفات والاختراعات والأفكار المدهشة، لم تخرج في أوقات الدوام الرسمي، وإنما عندما يُعطى للخيال العنان.
وقت الفراغ فرصة ثمينة للتنمية الذاتية، ومراجعة النفس وملاحظتها، كما أنه مجال رحب للاعتناء بها، وفيه تغذية الوعي والانتباه لما لا ننتبه إليه عادة أثناء الروتين اليومي. وفي الحديث النبوي “اغتنم خمسًا قبل خمس”، وذكر منها: “وفراغك قبل شغلك”. توجيه بليغ واضح لنعمة وقت الفراغ، بل في صحيح البخاري من حديث ابن عباس قوله صلى الله عليه وسلم: «نِعمتان مَغْبون فيهما كثير من الناس: الصِّحة، والفَرَاغ». فماذا نقول بعد وصف المصطفى لوقت الفراغ بأنه نعمة.
فكرة “الراحة”
الراحة الجيدة جزء من العمل، لأنها تعينك على الاستمرار في العطاء. والراحة الحقيقية تكون صوب الداخل، والراحة تأتي كمكافأة على الإنجاز، والراحة الاختيارية تقلل من حدوث الراحة الاضطرارية.
هناك أبحاث كثيرة جدا، تدرس علاقة النوم بالفاعلية والمناعة والعديد من الأمراض، بل هناك مختصون في التدريب على النوم الجيد، ومناقشات حول عدد الساعات الكافية في اليوم، وأفضل موعد للنوم، وطقوس النوم وتهيئة الغرفة له، واستخدام الوسائد والفراش المريح للظهر والرقبة، وعن أفضل موعد للاستيقاظ، ككتاب “نادي الخامسة صباحًا” لروبين شارما.
ويلخص توم راث أبعاد فترات الراحة في كتابه “كل. تحرك. نم” وفيه خلطة مميزة، تجمع بين الاهتمام بالغذاء الصحي وممارسة الرياضة ولو المشي، والحفاظ على النوم الصحي، وله موقع بعنوان الكتاب www.eatmovesleep.org. إلى هذه الدرجة تبدو الأوقات خارج وقت الوظيفة والدوام، في غاية الأهمية، والحقيقة أنها تخدم وقت العمل في النهاية.
خلايا مخك تحب الطقوس
هذا عنوان فرعي في فصل بعنوان (قوة الطقوس)، من كتاب توني بوزان “الذكاء الروحي”. وفيه يؤكد على أن اختيار الطقوس الصحيحة يزيد من قدرتنا على تحمل الصعاب وتجاوز المحن بروح أكثر ابتهاجًا. ويؤكد بوزان على أن الطقوس ليست في الصلوات فقط وإنما في الطعام والشراب والمناسبات الاجتماعية وغير ذلك.
والحق أن في تراثنا الإسلامي، أعمال أصيلة ونفيسة في أبواب الآداب، وعلى سبيل المثال فقط، ما صنفه أبو حامد الغزالي في كتابه “الإحياء”، فيما يتعلق بالآداب وسماها “عادات”، وهي تسمية مبتكرة ومتقدمة للغاية. وفي الهدي النبوي خرائط كاملة لعمل اليوم والليلة، ومحطات مؤقتة وأذكار موظفة بعناية.
فلسفة الدعاء
في الأذكار والدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، زاد ودواء لمكافحة آثار الحياة المشغولة، ومن ذلك:
- ثابت عنه عليه السلام أنه كان يستعيذ من ثمانٍ؛ الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وقهر الرجال.
- وثابت أيضًا في الصحيحين، استعاذته من جهد البلاء ودرك الشقاء.
وأخيرًا:
الحياة خارج دائرة الانشغال المضر، ننالها عندما نتحرك في الحياة، بأرواحنا أكثر من أجسادنا، وأن ننفتح على التنوع في الكون، وأن ندرب أنفسنا على الفاعلية الذاتية، لا الاعتماد على الغير، وأن نشحن طاقتنا، ونكف عن إهدارها، وأن نقبل التحدي بتفاؤل وعزم وتوكل على الله، ونحرص على المرح والدعابة ومساعدة الآخرين وإظهار التعاطف، وأن نستمتع بكل أوقاتنا بقدر الاستطاعة، وبتغليب الالتزام على الإلزام، والمحبة على الواجب، والقدرة على القوة، والكيف على الكم، والأهداف الجوهرية التي تُشعل حماسنا، على الأهداف العارضة، وأن نهتم بهواياتنا، وأن نحترم وقت الراحة، ثم اجعل سعيك بين “إياك نعبد” و”إياك نستعين:، ووعيك بـ “الحمد لله رب العالمين”.