ناقش أحد الأخوة الأعزاء في مقالي السابق عن الابتكار والذي كتبته تحت عنوان (كن مجنوناً) ملاحظة رئيسية فيه، وهى أنّني لم أضرب الأمثلة العديدة في المجالات المختلفة والتي تناسب جموع الناس وعمومها على اختلاف تخصصاتها وقدراتها. فمازحته أولاً وقلت له: لو أنّني فعلت ذلك فلن يكون للمقال معنى، فالمقال قائم على استحداث فكرة غريبة غير نمطية وغير تقليدية، ومعنى إرشادي الناس بفكرة وأفكار معينة أنّني أُمْلي عليهم النمطية والتقليدية من باب خلفي وهذا ما لا أريده، إنّني أريد أنْ يكون الابتكار نابعاً من الشخص نفسه، فهو أقدر على ذلك مني خصوصاً في تخصّصه الذي يجده ويفهم أبعاده، مفاتيحه وفعاليته!
هل مهندس الكومبيوتر أقدر على الابتكار فيه أم العبد لله، طبعاً، هو! وتكون الكارثة إذا كنت أقدر منه على الابتكار في مجال تخصصه وكنت أظن أنّني بهذا المنطق أكون قد أقنعت أخي العزيز الذي كان يناقشني، ولكنّه أصر على وجهة نظره، وتسلح لوجهة نظره هذه بحديث: (الحكمة ضالة المؤمن فأني وجودها) فهو أحق الناس بها. وقال لي: ليس بالضرورة أنْ تكون فكرة الابتكار نابعة من صاحب التخصّص نفسه، فلربما يسمع الفكرة من آخر، فتتفتح له أبواب ما كان ليهتدي إليها وحده، ويقوم هو ببلورة هذه الفكرة البدائية، التي تتعمق مع الزمن وبالتجربة حتى تصير فكرة مكتملة الأركان قابلة للتنفيذ والتحقق المادي على أرض الواقع.
أقول لكم الحق، لقد أقنعني، الأمر الذي دفعني لكتابة هذا المقال الذي بين أيدي حضراتكم والذي أحاول فيه أنْ أضرب الأمثلة للأفكار المبتكرة في المجالات المختلفة التي تحتاج إليها أمتنا وأبدأ بالمجال الاجتماعي وأسأل هذا السؤال: المشكلات الاجتماعية الواقعة في أمّتنا تحتاج إلى أفكار مبتكرة أم يكفيها الأفكار التقليدية المتوارثة منذ القدم؟ أعتقد أنّ هذه المشكلات ليس لها من حل بأمر الله تعالى – إلّا بالأفكار المبتكرة، والأفكار المبتكرة وحدها!
ولنبدأ مثلاً بمشكلة كمشكلة العنوسة إنّ أعداد الفتيات والفتيان الذين تجاوزوا سن الزواج بأعوام عديدة ولم يتزوجوا في ارتفاع مستمر، ويكاد ينتشر في مجتمعاتنا بشكل وبائي، ولا يخفى على من كان له نظر ولو قليل الأثر النفسي والمادي المزعج جداً على كل الأطراف الواقعة في هذه المشكلة بدءاً من الفتى والفتاة أنفسهما إلى والديهما إلى مجتمعهما القريب انتهاء بمجتمعهما الواسع وأمتهما!
قولوا لي كيف تحل هذه المشكلة الأفكار النمطية والمتمثلة في انتظار الفتاة للفتى الذي يدق باب بيتها ويطلب يدها من أبيها، بعدما يكون قد تجهز تماماً للزواج وقام بتوفير الشقة، ودفع المهر والشبكة، وتكفل بمصاريف الفرح، وفستان العروس وتأسيس المنزل كل ذلك من ادخاره من المرتب الذي يتقاضاه من وظيفته الحكومية أو حتى الخاصة التي يعمل بها، "لاحظ أنّني هنا ذكرت أنّه يعمل وأنْ له مرتباً يتقاضاه، ولم أصعب الموضوع وأقول إنّه لا يجد وظيفة وأنّه عاطل".
إنّني هنا أتكلّم عن مشكلة فرد في أسرة، فما بالكم لو كان لهذا الفتى أو تلك الفتاة، كما هو الطبيعي إخوة وأخوات ولهم نفس المطالب، وفي نفس المرحلة السنية، ما الذي من الممكن أن تساهم به الأفكار التقليدية هنا لحل المشكلة؟ أعتقد لا شيء، والدليل على ذلك أنّ المشكلة موجودة، وتتفاقم في ظل هذه الأفكار التقليدية، أرجو ألا يلوي كلامي، أو أن يؤول على غير ما أردت، إنّني أدعو المسلمين لابتكار حل لهذه المشكلة شريطة أن يكون هذا الحل على كتاب الله وعلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، غير مخالف لهما ولو قيد شعره، اللهم فاشهد!
أنتقل إلى مشكلة ثانية، وهي العلاقة بين المسلمين في أقطار الإسلام المختلفة، ما رأيكم فيها؟ أعتقد أنّها ليست جيدة وليست على المستوى المطلوب ولا حتى على واحد بالمائة منه وأعتقد أنّها بلغت من الوهن مبلغاً لم تبلغه من قبل في طول وعرض تاريخ أمتنا! كيف نحل هذه المشكلة؟ وأرجوكم ابتعدوا عن الحلول المستهلكة والبالية والجاهزة التي صدعت الآذان، وصارت مناطاً للسخرية والاستهزاء. فكروا كيف يجتمع مرة أخرى صهيب الرومي وسلمان الفارسي، وبلال الحبشي ومصعب العربي على المودة والحب والرأفة والرحمة، والصدق والبذل لدين الله!
فكروا يا إخواني وابتكروا، فكروا كيف تعود هذه الأمة واحدة، إذا اشتكى منها عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى. فكروا وابتكروا يرحمكم الله! إنّ مجالات الابتكار لا تُعد ولا تُحصى، فما ذكرته في كل العلاقات الاجتماعية ينصرف تماماً على المجال الاقتصادي، والمجال العسكري، والمجال العلمي، والمجال الطبي، والمجال السياسي، والمجال الفني، وقل في ذلك ما شئت، وتحت كل مجال من هذه المجالات آلاف النقاط التي تحمل وتحتاج إلى ابتكار وتحسين أداء.
أعتقد أنّني بذلت وحققت رغبة أخي قارئ المقال السابق الذي طالبني بضرب أمثلة للابتكار، فجزاه الله عني وعنكم خيراً، وأسال الله تعالى القبول، فإنّه سبحانه الداعي إلى الخير، والموفق إليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وللحديث بقية في الأسبوع القادم إن شاء الله.